كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وثانيها: عبد الصفوة: {وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} [النمل: 59] وموسى عليه السلام كان مخصوصًا بمزيد الصفوة: {ياموسى إِنْى اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144] فلا جرم أراد مزيد الصفوة فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
وثالثها: عبد البشارة: {فَبَشّرْ عِبَادِى الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17، 18] وكان موسى عليه السلام مخصوصًا بذلك: {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يُوحَى} [طه: 13] فأراد مزيد البشارة فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
ورابعها: عبد الكرامة: {يا عباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} [الزخرف: 68] وموسى عليه السلام كان مخصوصًا بذلك: {لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا} [طه: 46] فأراد الزيادة عليها فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
وخامسها: عبد المغفرة: {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49]، وكان موسى عليه السلام مخصوصًا بذلك: {رَبِّ اغفر لِي} [ص: 35] فغفر له فأراد الزيادة فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
وسادسها: عبد الخدمة: {اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] وموسى عليه السلام كان مخصوصًا بذلك: {واصطنعتك لِنَفْسِي} فطلب الزيادة فيها فقال: {اشرح لِي صَدْرِي}.
وسابعها: عبد القربة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] وموسى عليه السلام كان مخصوصًا بالقرب: {وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] فأراد كمال القرب فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
الفصل الثالث: في قوله: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} وفيه وجوه: أحدها: أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة التي أحدها: معرفة التوحيد: {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} [طه: 14]، وثانيها: أمره بالعبادة والصلاة:
{فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]، وثالثها: معرفة الآخرة: {إِنَّ الساعة ءَاتِيَةٌ} [طه: 15] ورابعها: حكمة أفعاله في الدنيا: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17]، وخامسها: عرض المعجزات الباهرة عليه: {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} [طه: 23]، وسادسها: إرساله إلى أعظم الناس كفرًا وعتوًا فكانت هذه التكاليف الشاقة سببًا للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأمونًا من غوائل شياطين الجن والإنس.
وثانيها: أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
وثالثها: الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالسًا في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحدًا في الوجود فلهذا عقبه بقوله: {وَيَسّرْ لِي أَمْرِي} فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات.
ورابعها: رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما هو، وهذا في معنى قول محمد صلى الله عليه وسلم: «أرنا الأشياء كما هي» واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلام فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} ولما آل الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم قيل له: {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا} [طه: 114] والعلم هو المقصود، فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم أعطى المقدمة، ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء.
وسادسها: الداعي له صفتان: إحداهما: أن يكون عبدًا للرب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186].
وثانيتهما: أن يكون الرب له: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملًا من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
وسابعها: أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} صرت قريبًا منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريبًا منك فعند ذلك: {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
وثامنها: قال موسى عليه السلام: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 46] فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلًا للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور، والوضوء نور، والصلاة نور، والقبر نور، والجنة نور، فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة.
الفصل الرابع: في قوله: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال: نور يقذف في القلب، فقيل: وما أمارته فقال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول، ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ} [الزمر: 22] واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور، أحدها: وصف ذاته بالنور: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35].
وثانيها: الرسول: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ} [المائدة: 15].
وثالثها: القرآن: {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157].
ورابعها: الإيمان: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} [التوبة: 32].
وخامسها: عدل الله: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا} [الزمر: 69].
وسادسها: ضياء القمر: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]، وسابعها: النهار: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].
وثامنها: البينات: {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44].
وتاسعها: الأنبياء: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35].
وعاشرها: المعرفة: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] إذا ثبت هذا فنقول كأن موسى عليه السلام قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك.
وثانيها: رب اشرح لي صدري، بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك.
وثالثها: رب اشرح لي صدري، باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك.
ورابعها: رب اشرح لي صدري، بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك.
وخامسها: رب اشرح صدري بالإطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك.
وسادسها: رب اشرح لي صدري بالإنتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة.
وسابعها: رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك.
وثامنها: رب اشرح لي صدري بالإطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك.
وتاسعها: رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين ومتشبهًا بهم في الإنقياد لحكم رب العالمين.
وعاشرها: رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح، واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج وذلك النور كالنار، ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجًا احتاج إلى سبعة أشياء: زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن.
فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة.
فأولها: لابد من زند المجاهدة: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وثانيها: حجر التضرع: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
وثالثها: حراق منع الهوى: {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} [النازعات: 40].
ورابعها: كبريت الإنابة: {وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ} [الزمر: 54] ملطخًا رؤوس تلك الخشبات بكبريت توبوا إلى الله.
وخامسها: مسرجة الصبر: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45].
وسادسها: فتيلة الشكر: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
وسابعها: دهن الرضا: {واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} [الطور: 48] أي ارض بقضاء ربك فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن لا تطلب المقصود إلا من حضرته: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] ثم اطلبها بالخشوع والخضوع: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا} [طه: 108] فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} فهنالك تسمع؛ {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] ثم نقول هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه: أحدها: الشمس تحجبها غمامة وشمس المعرفة لا يحجبها السموات السبع: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10].
وثانيها: الشمس تغيب ليلًا وتعود نهارًا قال إبراهيم عليه السلام: {لا أُحِبُّ الأفلين} [الأنعام: 76] أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلًا: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِىَ أَشَدُّ وطئًا} [المزمل: 6] {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].
وثالثها: الشمس تفنى: {إِذَا الشمس كُوّرَتْ} [التكوير: 1] وشمس المعرفة لا تفنى: {سَلاَمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58].
ورابعها: الشمس إذا قابلها القمر انكسفت أما هاهنا فشمس المعرفة وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمدًا رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح.
وخامسها: الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيضها:
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106].
وسادسها: الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق، جزيًا مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي.
وسابعها: الشمس تصدع والمعرفة تصعد: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10].
وثامنها: الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ} [الكهف: 46].
وتاسعها: الشمس في السماء زينة لأهل الأرض والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء.
وعاشرها: الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى وذلك يدل على الحسد مع التكبر، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى، وذلك يدل على التواضع مع الشرف.
وحادي عشرها: الشمس تعرف أحوال الخلق وبالمعرفة يصل القلب إلى الخالق.
وثاني عشرها: الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة لا جرم قال موسى: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} وأما النكت: فإحداها: الشمس سراج استوقدها الله تعالى للفناء: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] والمعرفة استوقدها للبقاء فالذي خلقها للفناء لو قرب الشيطان منها لاحترق: {شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 9] والمعرفة التي خلقها للبقاء كيف يقرب منها الشيطان: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
وثانيتها: استوقد الله الشمس في السماء وإنها تزيل الظلمة عن بيتك مع بعدها عن بيتك، وأوقد شمس المعرفة في قلبك أفلا تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك مع قربها منك.
وثالثتها: من استوقد سراجًا فإنه لا يزال يتعهده ويمده والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} [الحجرات: 7] أفلا يمده وهو معنى قوله: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
ورابعتها: اللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه والله قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه فلهذا قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
وخامستها: المجوس أوقدوا نارًا فلا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد سراج الإيمان في قلبك فكيف يرضى بإطفائه، واعلم أنه سبحانه وتعالى أعطى قلب المؤمن تسع كرامات، أحدها: الحياة: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] فلما رغب موسى عليه السلام في الحياة الروحانية قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} ثم النكتة أنه عليه السلام قال من أحيا أرضًا ميتة فهي له فالعبد لما أحيا أرضًا فهي له فالرب لما خلق القلب وأحياه بنور الإيمان فكيف يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب: {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91] وكما أن الإيمان حياة القلب بالكفر موته: {أموات غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 21].
وثانيها: الشفاء: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] فلما رغب موسى في الشفاء رفع الأيدي قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} والنكتة أنه تعالى لما جعل الشفاء في العسل بقي شفاء أبدًا فههنا لما وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى شفاء أبدًا.
وثالثها: الطهارة: {أُوْلَئِكَ الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} [الحجرات: 3] فلما رغب موسى عليه السلام في تحصيل طهارة التقوى قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} والنكتة أن الصائغ إذا امتحن الذهب مرة فبعد ذلك لا يدخله في النار فههنا لما امتحن الله قلب المؤمن فكيف يدخله النار ثانيًا ولكن الله يدخل في النار قلب الكافر: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} [الأنفال: 37].
ورابعها: الهداية ومن يؤمن بالله يهد قلبه فرغب موسى عليه السلام في طلب زوائد الهداية فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} والنكتة أن الرسول يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك فلما كانت الهداية من الكفر من محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم تارة تحصل وأخرى لا تحصل: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص: 56] وهداية الروح لما كانت من القرآن فتارة تحصل وأخرى لا تحصل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] أما هداية القلب فلما كانت من الله تعالى فإنها لا تزول لأن الهادي لا يزول: {وَيَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].
وخامسها: الكتابة: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] فلما رغب موسى عليه السلام في تلك الكتابة قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} وفيه نكت: الأولى: أن الكاغدة ليس لها خطر عظيم وإذا كتب فيها القرآن لم يجز إحراقها فقلب المؤمن كتب فيه جميع أحكام ذات الله تعالى وصفاته فكيف يليق بالكريم إحراقه.
الثانية: بشر الحافي أكرم كاغدًا فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين فإكرام قلب فيه معرفة الله تعالى أولى بذلك.
والثالثة: كاغد ليس فيه خط إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى أنه لا يجوز للجنب والحائض أن يمسه بل قال الشافعي رحمه الله تعالى ليس له أن يمس جلد المصحف، وقال الله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] فالقلب الذي فيه أكرم المخلوقات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ} [الإسراء: 70] كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه والله أعلم.